سورة عبس - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (عبس)


        


لما قصره سبحانه على إنذاره من يخشى، وكان قد جاءه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أم مكتوم الأعمى رضي الله تعالى عنه، وكان من السابقين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين مجيئه مشتغلاً بدعاء ناس من صناديد قريش إلى الله تعالى، وقد وجد منهم نوع لين، فشرع عبد الله رضي الله عنه يسأله وهو لا يعلم ما هو فيه من الشغل، يسأله أن يقرئه ويعلمه مما عمله الله فكره أن يقطع كلامه مع أولئك خوفاً من أن يفوته منهم ما يرجوه من إسلامهم المستتبع لإسلام ناس كثير من أتباعهم، فكان يعرض عنه ويقبل عليهم، وتظهر الكراهة في وجهه، لاطفه سبحانه وتعالى بالعتاب عن التشاغل عن أهل ذلك بالتصدي لمن شأنه أن لا يخشى لافتتانه بزينة الحياة الدنيا وإقباله بكليته على ما يفنى، فقال مبيناً لشرف الفقر وعلو مرتبته وفضل أهل الدين وإن هانوا، وخسة أهل الدنيا وإن زانوا، معظماً له صلى الله عليه وسلم بسياق الغيبة كما قال سعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة: وعلى من ههنا- يشير إلى ناحية النبي صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنها حياء منه صلى الله عليه وسلم وإجلالاً له: {عبس} أي فعل الذي هو أعظم خلقنا ونجله عن أن نواجهه بمثل هذا العتاب بوجهه فعل الكاره للشيء من تقطيب الوجه بما له من الطبع البشري حين يحال بينه وبين مراده، وآذن بمدحه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك خلاف ما طبعه عليه سبحانه من رحمة المساكين ومحبتهم والسرور بقربهم وصحبتهم بقوله: {وتولى} أي كلف نفسه الإعراض عنه رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم فيتأيد بهم الإسلام ويسلم بإسلامهم أتباعهم فتعلو كلمة الله لأجل {أن جاءه الأعمى} الذي ينبغي أن يبالغ في العطف عليه وفي إكرامه جبراً لكسره واعترافاً بحقه في مجيئه، وذكره بالوصف للإشعار بعذره في الإقدام على قطع الكلام والبعث على الرأفة به والرحمة له، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رآه بعد ذلك قال: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربي» واستخلفه على المدينة الشريفة عند غزوه مرتين، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ورأيته يوم القادسية عليه درع ومعه راية سوداء رضي الله عنه.
ولما عرف بسياق الغيبة ما أريد من الإجلال، وكان طول الإعراض موجباً للانقباض، أقبل عليه صلى الله عليه وسلم فقال: {وما يدريك} أي وأي شيء يجعلك دارياً بحاله وإن اجتهدت في ذلك فإن ذوات الصدور لا يعلمها إلا الله تعالى {لعله} أي الأعمى {يزكى} أي يكون بحيث يرجى تطهره ونمو أحواله الصالحة بما يسمع منك ولو على أدنى الوجوه بما يشير إليه إدغام تاء الافتعال، وكذا قوله: {أو يذكر} أي أو يقع منه التذكر لشيء يكون سبباً لزكائه وتذكره ولو كان ذلك منه على أدنى الوجوه المخرجة من الكفر فإن الخير لا يحقر شيء منه، وسبب عن تزكيه وتذكره قوله: {فتنفعه} أي عقب تذكره وسببه {الذكرى} وفي ذلك إيماء إلى أن الإعراض كان لتزكية غيره وتذكره، وقراءة النصب على أنه جواب لعل.
ولما ذكر العبوس والتولي عنه فأفهما ضدهما لمن كان مقبلاً عليهم، بين ذلك فقال: {أما من استغنى} أي طلب الغنى وهو المال والثروة فوجده وإن لم يخش ولم يجئ إليك {فأنت له} أي دون الأعمى {تصدى} أي تتعرض بالإقبال عليه والاجتهاد في وعظه رجاء إسلامه وإسلام أتباعه بإسلامه وهم عتبة بن ربيعة وأبو جهل وأبي وأمية ابنا خلف، وأشار حذف تاء التفعل في قراءة الجماعة وإدغامها في قراءة نافع وابن كثير إلى أن ذلك كان على وجه خفيف كما هي عادة العقلاء.


وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما قال سبحانه: {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} [النازعات: 26] وقال بعد {إنما أنت منذر من يخشاها} [النازعات: 45] افتتحت هذه السورة الأخرى بمثال يكشف عن المقصود من حال أهل التذكر والخشية وجميل الاعتناء الرباني بهم وأنهم وإن كانوا في دنياهم ذوي خمول لا يؤبه لهم فهم عنده سبحانه في عداد من اختاره لعبادته وأهله لطاعته وإجابة رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلى منزلته لديه «رب أشعث أغبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره» ومنهم ابن أم مكتوم الأعمى مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي بسببه نزلت السورة ووردت بطريق العتب وصاة لنبيه صلى الله عليه وسلم وتنبيهاً على أن يعمل نفسه الكريمة على مصابرة أمثال ابن أم مكتوم وأن لا يحتقر وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولكن التحذير من هذا وإن لم يكن وقع يشعر بعظيم الاعتناء بمن حذر، ومنه قوله سبحانه: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] و{لا تدع مع الله إلهاً آخر} [ص: 88] و{لا تمش في الأرض مرحاً} [لقمان: 18] وهو كثير، وبسط هذا الضرب لا يلائم مقصودنا في هذا التعليق، لما دخل عليه صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم سائلاً ومسترشداً وهو صلى الله عليه وسلم يكلم رجلاً من أشراف قريش وقد طمع في إسلامه ورجاء إنقاذه من النار وإنقاذ ذويه وأتباعه، فتمادى على طلبه هذا الرجل لما كان يرجوه ووكل ابن أم مكتوم إلى إيمانه فأغفل- فورية مجاوبته وشق عليه إلحاحه خوفاً من تفلت الآخرة ومضيه على عقبه وهلاكه عتب سبحانه وتعالى عليه فقال: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر} [عبس: 1- 4] وهي منه سبحانه واجبة، وقد تقدم في السورة قبل قول موسى عليه الصلاة والسلام {هل لك إلى أن تزكى} [النازعات: 18] فلم يقدر له بذلك ولا انتفع ببعد صيته في دنياه ولا أغنى عنه ما نال منها وبارت مواد تدبيره وعميت عليه الأنباء إلى أن قال {ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى} [القصص: 38] {وإني لأظنه كاذباً وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل} [غافر: 37] فأنى يزكى؟ ولو سبقت له سعادة لأبصر من حاله عين اللهو وللعب حين مقالته الشنعاء {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين} [الزخرف: 52].
ولما سبقت لابن أم مكتوم الحسنى لم يضره عدم الصيت الدنياوي ولا أخل به عماه بل عظّم ربه شأنه لما نزل في حقه {وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى} [عبس: 2- 4] فيا له صيتاً ما أجله بخلاف من قدم ذكره ممن طرد فلم يتزك ولم ينتفع بالذكرى حين قصد بها {إنما أنت منذر من يخشاها} [النازعات: 45] كابن أم مكتوم، ومن نمط ما نزل في ابن أم مكتوم قوله تعالى: {واصبر نفسك مع الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الكهف: 28] وقوله: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الأنعام: 52] فتبارك ربنا ما أعظم لطفه بعبيده- اللهم لا تؤيسنا من رحمتك ولا تقنطنا من لطفك ولا تقطع بنا عنك بمنك وإحسانك- انتهى.
ولما كان فعله ذلك فعل من يخشى أن يكون عليه في بقائهم على كفرهم ملامة، بين له أنه سالم من ذلك فقال: {وما} أي فعلت ذلك والحال أنه ما {عليك} أي من بأس في {ألا يزكّى} أصلاً ورأساً ولو بأدنى تزك- بما أشار إليه الإدغام- إن عليك إلا البلاغ، ويجوز أن يكون استفهاماً أي وأي شيء يكون عليك في عدم تزكيه وفيه إشارة إلى أنه يجب الاجتهاد في تزكية التابع الذي عرف منه القبول.
ولما ذكر المستغني، ذكر مقابله فقال: {وأما من جاءك} حال كونه {يسعى} أي مسرعاً رغبة فيما عندك من الخير المذكر بالله وهو فقير {وهو} أي والحال أنه {يخشى} أي يوجد الخوف من الله تعالى ومن الكفار في أذاهم على الإتيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معاثر الطريق لعماه {فأنت عنه} أي خاصة في ذلك المجلس لكونه في الحاصل {تلهّى} أي تتشاغل لأجل أولئك الأشراف الذين تريد إسلامهم لعلو بهم الدين تشاغلاً حفيفاً بما أشار إليه حذف التاء، من لهى عنه كرضى- إذا سلى وغفل وترك، وفي التعبير بذلك إشارة إلى أن الاشتغال بأولئك لا فائدة فيه على ما تفهمه تصاريف المادة وإلى أن من يقصد الانسان ويتخطى رقاب الناس إليه له عليك حق عظيم، والآية من الاحتباك: ذكر الغنى أولاً يدل على الفقر ثانياً، وذكر المجيء والخسية ثانياً يدل على ضدهما أولاً، وسر ذلك التحذير مما يدعو إليه الطبع البشري من الميل إلى الأغنياء، ومن الاستهانة بحق الآتي إعظاماً لمطلق إتيانه.
ولما كان العتاب الذي هو من شأن الأحباب ملوحاً بالنهي عن الإعراض عمن وقع العتاب عليه، وكل من كان حاله كحاله والتشاغل عن راغب، صرح به فقال: {كلا} أي لا تفعل ذلك أصلاً فإن الأمر في القضاء والقدر ليس على ما يظن العباد ولا هو جار على الأسباب التي تعرفونها بل هو من وراء علومهم على حكم تدق عن أفكارهم وفهومهم: ثم علل ذلك فقال مؤكداً لإنكارهم ذلك، {إنها} أي القرآن، ولعله أنث الضمير باعتبار ما تلي عليهم في ذلك المجلس من الآيات أو السور {تذكرة} أي تذكرهم تذكيراً عظيماً بما إن تأملوه شاهدوه في أنفسهم وفي الآفاق، ليس فيه شيء إلا وهم يعرفونه لو أقبلوا بكليتهم عليه، فما على المذكر بها غير البلاغ، فمن أقبل عليه فأهلاً وسهلاً، ومن أعرض فبعداً له وسحقاً.
ولما كان سبحانه قد خلق للإنسان عقلاً واختياراً، ويسر أمر القرآن في الحفظ والفهم لمن أقبل عليه، سبب عن ذلك قوله: {فمن شاء} أي ذكره بعد مشيئة الله تعالى كما تقدم تقييده في القرآن غير مرة {ذكره} أي حفظ القرآن كله وتذكر ما فيه من الوعظ من غير تكرير ولا معالجة تحوج إلى الإعراض عن بعض المقبلين الراغبين، وللإشارة إلى حفظه كله ذكر الضمير.
ولما كان التقدير: حال كون القرآن مثبتاً أو حال كون الذاكر له مثبتاً، قال واصفاً لتذكرة مبيناً لشرفها بتشريف ظرفها وظرف ظرفها {في صحف} أي أشياء يكتب فيها من الورق وغيره {مكرمة} أي مكررة التكريم ومعظمة في السماء والأرض في كل أمة وكل ملة {مرفوعة} أي عليه المقدار بإعلاء كل أحد لا سيما من له الأمر كله {مطهرة} أي منزهة عن أيدي أهل السفول وعن قولهم إنها شعر أو سحر ونحو ذلك، وعلق أيضاً بمثبت بالفتح أو الكسر على اختلاف المعنيين- قوله مبيناً شرف ذلك الظرف لذلك الظرف إشارة إلى نهاية الشرف للمظروف: {بأيدي سفرة} أي كتبة يظهرون الكتابة بما فيها من الأخبار الغريبة والأحكام العلية في كل حال، فإن كان ما تعلق به الجار بالفتح فهو حقيقة في أنهم ملائكة يكتبونه من اللوح المحفوظ، أو يكون جمع سافر إما بمعنى الكتاب أو المسافر أي القطع للمسافة أو السفير الذي هو المصلح لأنهم سفراء بين الله وأنبيائه، وبهم يصلح أمر الدين والدنيا، وإن كان بالكسر فهو مجاز لأن من أقبل على كتابة الذكر يكون مهذباً في الحال أو في المآل في الغالب، وتركيب سفر للكشف {كرام} أي ينطوون على معالي الأخلاق مع أنهم أعزاء على الله {بررة} أي أتقياء في أعلى مراتب التقوى والكرم وأعزها وأوسعها.


ولما كان الوصف بهذه الأوصاف العالية للكتبة الذين أيديهم ظرف للصحف التي هي ظرف للتذكرة للتنبيه على علو المكتوب وجلالة مقداره وعظمة آثاره وظهور ذلك لمن تدبره وتأمله حق تأمله وأنعم نظره، عقبه بقوله ناعياً على من لم يقبل بكليته عليه داعياً بأعظم شدائد الدنيا التي هي القتل في صيغة الخبر لأنه أبلغ: {قتل الإنسان} أي هذا النوع الآنس بنفسه الناسي لربه المتكبر على غيره المعجب بشمائله التي أبدعها له خالقه، حصل قتله بلعنه وطرده وفرغ منه بأيسر سعي وأسهله من كل من يصح ذلك منه لأنه أسرع شيء إلى الفساد لأنه مبني على النقائص إلا من عصم الله {ما أكفره} أي ما أشد تغطيته للحق وجحده له وعناده فيه لإنكاره البعث وإشراكه بربه وغير ذلك من أمره، فهو دعاء عليه بأشنع دعاء وتعجيب من إفراطه في ستر محاسن القرآن التي لا تخفى على أحد ودلائله على القيامة وكل شيء لا يسع أحداً التغبير في وجه شيء منها، وهذا الدعاء على وجازته يدل على سخط عظيم وذم بليغ وهو وإن كان في مخصوص فالعبرة بعمومه في كل من كفر نعمة الله، روي أنها نزلت في عتبة بن أبي لهب غاضب أباه فأسلم ثم استصلحه أبوه وأعطاء مالاً وجهزه إلى الشام فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كافر برب النجم إذا هوى، وأفحش في غير هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم أبعث عليه كلباً من كلابك» فلما انتهى إلى مكان من الطريق فيه الأسد ذكر الدعاء فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حياً فجعلوه في وسط الرفقة والمتاع والرحال فأقبل الأسد إلى الرحال ووثب فإذا هو فوقه فمزقه فكان أبوه يندبه ويبكي عليه وقال: ما قال محمد شيئاً إلا كان، ومع ذلك فما نفعه ما عرف من ذلك، فسبحان من بيده القلوب يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وكل ذلك من هدايته وإضلاله شاهد بأن له الحمد.
ولما كان اكثر انصباب التعجيب منه ناظراً إلى تكذيبه بالساعة لأجل ظهور أدلتها في القرآن جداً ولأنه توالت في هذه السور إقامة الأدلة عليها مما لا مزيد عليه، شرع في إقامة الديل عليها بآية الأنفس من ابتداء الخلق في أسلوب مبين لخسته وحقارته وأن من ألبسه أثواب الشرف بعد تلك الخسة والحقارة جدير منه بالشكر لا بالكفر، فقال منبهاً له بالسؤال: {من أي شيء} والاستفهام للتقرير مع التحقير {خلقه} ثم أجاب إشارة إلى أن الجواب واضح لا يحتاج فيه إلى وقفة أصلاً فقال مبيناً حقارته: {من نطفة} أي ماء يسير جداً لا من غيره {خلقه} أي أوجده مقدراً على ما هو عليه من التخطيط {فقدره} أي هيأه لما يصلح من الأعضاء الظاهرة والباطنة والأشكال والأطوار إلى أن صلح لذلك ثم جعله في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن ثم الرحم ثم المشيمة، أو هي على ما قال أهل التشريح ثلاثة أغشية: أحدها المشيمة تتصل بسرة الجنين تمده بالغذاء، والثاني يقبل بوله، والثالث يقبل البخارات التي تصعد منه بمنزلة العرق والوسخ في أبدان الكاملين، وأعطاه قدرة لما أراده منه {ثم} أي بعد انتهاء المدة {السبيل} أي الأكمل في العموم والاتساع والوضوح لا غيره، وهو مخرجه من بطن أمه وطريقه إلى الجنة أو النار {يسره} أي سهل له أمره في خروجه بأن فتح فم الرحم وألهمه أن ينتكس، وذلل له سبيل الخير والشر، وجعل له عقلاً يقوده إلى ما يسر له منهما، وفيه إيماء إلى أن الدنيا دار الممر، والمقصد غيرها وهو الأخرى التي تدل عليها الدنيا، ولذلك عقبه بقوله عاداً الموت من النعم لأنه لو دام الإنسان حياً مع ما يصل إليه من الضغف والخوف لكان في غاية البشاعة والشماتة لأعدائه والمساءة لأوليائه على أن الموت سبب الحياة الأبدية: {ثم} أي بعد أمور قدرها سبحانه من أجل وتقلبات {أماته} وأشار إلى إيجاب المبادرة إلى التجهيز بالفاء المعقبة في قوله: {فأقبره} أي جعل له قبراً فغيبه فيه وأمر بدفنه تكرمة له وصيانة عن السباع، والإقبار جعلك للميت قبراً وإعطاؤك القتيل لأهله ليدفنوه، والمعنى الامتنان بأنه جعل للأنسان موضعاً يصلح لدفنه وجعله بعد الموت بحيث يتمكن من دفنه، ولو شاء لجعله يتفتت مع النتن ونحوه مما يمنع من قربانه، أو جعله بحيث يتهاون به فلا يدفن كبقية الحيوانات، فقد عرف بهذا أن أول الإنسان نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة، فما شرفه بالعلم إلا الذي أبدعه وصوره، وذلك موجب لأن يشكره لا أن يكفره.
ولما كانت مدة البرزخ طويلة، وكان البعث أمراً محققاً غير معلوم الوقت بالعين بغيره تعالى، عبر عن المعاني الثلاثة بأداتي التراخي والتحقق فقال: {ثم إذا شاء} أي إنشاره {أنشره} أي بعثه من قبره كما كان في دنياه بزيادة أنه على تركيب قوي لا يتهيأ فيه فراق الروح الجسد.
ولما كان إخباره بأنه مع الذي يسر له السبيل قد يفهم أنه لا يعمل إلا بما يرضيه، نفى ذلك على سبيل الردع فقال: {كلا} أي ليرتدع هذا الإنسان الذي عرف أن هذه حالاته أولاً وآخراً واثناءً ومخرجاً تارة من مخرج البول وأخرى من مخرج الحيض ومقبراً، ولينزجر وليعرف، نفسه بالذلة والخسة والحاجة والعجز، وليعرف ربه سبحانه بالعزة والعظمة والكبرياء والفناء والقدرة على تشريف الحقير وتحقير الشريف، وبأنه سبحانه لا يلزمه شيء فلا يلزم من تعريف هذا الإنسان السبيل وتمييزه له لأنه لا يفعل إلا ما لا يعاتب عليه، فإنه لا يكون من الإنسان وغيره إلا ما يريده، وتارة يريد هداه، وتارة يريد ضلاله، فقد يأمر بما لا يريده ويريد ما لا يأمر به ولا يرضاه، ولذلك قال مستأنفاً نفي ما أفهمه بتيسيره للسبيل من أن الإنسان يفعل جميع ما أمره به الله الذي يسر له السبيل: {لما يقض} أي يفعل الإنسان فعلاً نافذاً ماضياً {ما أمره} أي به الله كله من غير تقصير ما من حين تكليفه إلى حين إقباره بل من حين وجد آدم عليه الصلاة والسلام إلى حين نزول هذه الآية وإلى آخر الدهر، لأن الإنسان مبني على النقصان والإله منزه التنزه الأكمل، وما قدروا الله حق قدره، وأيضاً الإنسان الذي هو النوع لم يعمل بأسره بحيث لم يشذ منه فرد جميع ما أمره، بل أغلب الجنس عصاه وكذب بالساعة التي هي حكمة الوجود، وإن صدق بها بعضهم كان تصديقه بها تكذيباً لأنه يعتقد أشياء منها على خلاف ما هي عليه.
ولما ردعه بعد تفصيل ما له في نفسه من الآيات، وأشار إلى ما له من النقائص، شرع يقيم الدليل على تقصيره بأنه لا يقدر على شكر نعمة المنعم فيما له من المطعم الذي به قوامه فكيف بغيرها في أسلوب دال على الإنشار بآيات الآفاق منبه على سائر النعم في مدة بقائه المستلزم لدوام احتياجه إلى ربه فقال مسبباً عن ذلك: {فلينظر الإنسان} أي يوقع النظر التام على كل شيء يقدر على النظر به من بصره وبصيرته ومدّ له المدى فقال: {إلى طعامه} يعني مطعومه وما يتصل به ملتفتاً إليه بكليته بالاعتبار بما فيه من العبر التي منها أنا لو لم نيسره له هلك.
ولما كان المقصود النظر إلى صنائع الله تعالى فيه. وكانت أفعال الإنسان وأقواله في تكذيبه بالعبث أفعال من ينكر ذلك الصنع، قال سبحانه مفصلاً لما يشترك في علمه الخاص والعام من صنائعه في الطعام، مؤكداً تنبيهاً على أن التكذيب بالعبث يستلزم التكذيب بإبداع النبات وإعادته، وذلك في أسلوب مبين أن الإنسان محتاج إلى جميع ما في الوجود، ولو نقص منه شيء اختل أمره، وبدأ أولاً بالسماوي لأنه أشرف، وبالماء الذي هو حياة كل شيء، تنبيهاً له على ابتداء خلقه: {أنّا} أي على ما لنا من العظمة {صببنا الماء} أي الذي جعلنا منه كل شيء حي {صباً} وثنى بالأرض التي هي كالأنثى بالنسبة إلى السماء فقال: {ثم} أي بعد مهلة من إنزال الماء، وفاوتنا بينها في البلاد والنبات {شققنا} أي بما لنا من العظمة {الأرض} بالنبات الذي هو في غاية الضعف عن شق أصعب الأشياء فكيف بالأرض اليابسة المتكزرة جداً عند مخالطة الماء، وحقق المعنى فقال: {شقاً} ثم سبب عن الشق ما هو كالتفسير له مبيناً الاحتياج إلى النبات بقوله: {فأنبتنا} أي أطلعنا على وجه الاتصال الموجب للتغذي والنمو {فيها} بسبب الشق {حباً} أي لاقتيات الإنسان وغيره من الحيوان كالحنطة والشعير والرز وغيرها.

1 | 2